فيزياء
اللون
قصة الأديب
: عبد العزيز بركة ساكن
يلتقط الأصداف بأنامل قلقة لكنها بصيرة ماهرة . تري تحس وتقرأ في نفس
لحظة اللمس ، تقوص قدماه في مياه النهر الدافئة يسمع أنين الرمل تحتها ، كان
يستهدف الأصداف الكبيرة ذات النهايات التي تشبه منقار النسر ، هي كثيرة تقبع في
المياه الضحلة، لكن العثور عليها يحتاج لوقت وخبرة ، وهذا هو يومه الأخير في كلية
التربية وقد ودع تلاميذه بالأمس بعد أن قاموا بانجاز جدارية تعليمية ضخمة تطل علي
نهر النيل ، تجلت موهبته في رسم حركة الحشرات ، السحالي والطيور الشرسة الجارحة ،
لذا خلده تلاميذه في الجدارية برسم ضب نزق يتسلق
الحائط برجليه الخلفيتين وذيله ، يقبض بقائمتيه الأماميتين علي فرشاة التلوين .
يقلب صدفه علي بطنها يضعها مع الآخرين برفق في الصندوق الخشبي الصغير
الذي أعده لهذا الغرض ، الآن عليه الحصول علي أكبر عدد ممكن من الصدفات الصغيرات ،
يحتاجها لصنع أرياش الأجنحة والزغب علي العنق ، القوائم والمخالب يريد أن يفعل
شيئاً كله من النهر ولا علاقة له بالنهر ، يريد أن يقول أن النهر هو سيد الحياة .
كان جائعاً مرهقاً سعيداً ومستثاراً بصيده النهري ، ليس هدوم العمل
واشتغل في الصندوق يسكن وحده في منزل يتكون من حجرتين ومرحاض ، يستخدم الحجرة الكبير
كمحترف له، والأخري كغرفة نوم ، سكن معه من قبل صديق سكير أدمن رباعي الغناء : الخمر ، الحبيبة ، الشعر ، والجوع . ذات
صباح أدهشه بموت صامت ، منذ ذلك الحين ظل وحده حتي البنيات اللائي يستخدمهن كموديل
يعيدهن إلي حيث أتي بهن العمل مباشرة ، لا يطيق غير صحبة حبيبته فقط ، بينما تدور
الأشياء في رأسه تعمل معدته في صمت في هضم الفول وقطع الجبنة الصغيرة والرغيفات
كانت أنامله تتحرك في خفة وهي تصنع النسر الصدفي الضخم بدأ بالمنقار الحاد الذي هو
شبه معطي من الطبيعة، ثم شكل العنق من الصدفات الصغيرات اللامعات الذهبيات
الصفراوات الخضراوات البنيات الأكثر خفة وبهجة واحتفاءً بالضوء .
حل المساء تدريجياً ، أضاء الكشافتين الكبيرتين اللتين توفران إضاءة
أفقية تساعده في دقة الرؤية وتحديد اللون ، كان يعرف أن اللون ليس في السطح أو
الكتلة ولكنه في العين ذاتها وتأخذه العين من الضوء لذا كان يحتاج إلي ضوء كثيف
مباشر ، عندما دقت ساعته الحائطية معلنة الواحدة صباحاً ، كان النسر الأول قد
اكتمل وأخذت عيناه الحادتان الحمراوتان تلمعان في ريبة مما جعله يحس بتوتر في
أعصابه ، قال لنفسه : " إنه الضوء ..؟ " أضاء كشافة صغيرة ترسل ضوءا أزرق خفيفا في
زوايا حادة يختلط مع ضوء الكشافتين المائل إلي الحمرة ، ولكنه شكل خدعة خاصة به
يفهم الأستاذ قواعدها بصورة جيدة ، ويعرف كيف يتعامل معها ، لكن النسر الشرس الذي
فرغ من صنعه للتو حرك رأسه في إتجاه مصدر الضوء الازرق كليته ، مما جعل الصدفات
الرقيقات البهيات التي صنع منهن الصدر وزغب الرقبة تصدر صريراً باهتاً وما يشبه
صوت تصدع صدفة كبيرة ، قفز مرعوباً في الهواء ثم ضحك علي نفسه لمجرد التفكير في
أنه خاف من شىء ما ، حملق في النسر البدي
الآن ساكنا صامتا وبرئيا جدا ، وبرقت عينيه الحمراوتين بعض الأدمع البنية ، يعرف
أن كل ذلك ليس سوى مداعبة اعتاد عليها من الضوء ، الكتلة والفراغ من جهة وعينيه
ومزاجه النفسي من جهة أخري .... إلاّ أن إحساسه بالخوف كان حقيقياً وأصيلاً، أحس
بألم الوحدة ، أحس بأنه أرهق نفسه أكثر مما يجب وعليه أن يذهب بعيداً وبأسرع ما
يمكن من هنا .
عندما عاد إلي البيت في الفجر وجد كل شىء كما هو، النسر ما يزال علي
قاعدته ، ينتظر في سكون ، الأنوار مطفأة حيث أن الكهرباء قد نفدت ، أخذ يتمعن نسره
، لقد برع في صنعه وهو ىعرف أعماله جيداً ، العظيمة المتقنة وتلك العابرة الهشة .
هذا النسر عمل متقن ، لولا تواضع الفنان لأطلق عليه صفة الكمال ، إبتسم ، بدأ في
صناعة آخر ... وآخر وآخر ....... بعد أسبوعين من العمل الشاق المتواصل والسهر كان
بمرسمه الصغير عشرة نسور عملاقة جميلة شرسة وكاسرة ، تشع أعينها في قلق ، سوف يقوم
بعرضها كأول معرض تشكيلي من نسور الأصداف في التاريخ ، وهو الآن أنجز عملاً فنياً
كاملا ، وإذا كانت الروح في متناول يده لنفخ
فيها الروح فطارت .
عندما جاءت حبيبته في ذلك الصباح وجدت الباب مغلقاً كالعادة ،
فإستخدمت مفتاحها الخاص ، سمعت جلبة غير معتادة داخل المرسم ، بل ضجيجاً ، تعرف عن
حبيبها الهدوء ، ولكنه أيضاً قد يمارس الفوضي حيث أنه كثيراً ما يقوم بتحطيم
أعماله الفنية بعنف وهمجية إذا لم يرض عنها وأحيانا ً يستخدم في ذلك فأساً ورثها
عن جده ، قامت بدفع باب المرسم بكل ما أوتيت من قوة ...
لم يمض وقت طويل علي حضور الجيران عندما علا صراخها ، بل أن البعض قد
شاهد النسور الضخمة تخرج مندفعة من باب البرندة لتخلق في السماء فاردة أجنحتها
الذهبية اللامعة في هواء يناير الساخن ، وفي الداخل كان الهيكل العظمي الحزين يرقد
مبللاً بالدم الطازج .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق